فصل: خلافة أبي جعفر المنصور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة أبي جعفر المنصور:

وهو ثاني خلفاء بني العباس، كان السفاح قد عهد بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور، ثم من بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فعقد العهد في ثوب، وختم عليه، ودفعه إلى عيسى بن موسى، ولما مات السفاح، كان أبو جعفر في الحج، فأخذ له البيعة على الناس عيسى بن موسى، وأرسل يعلمه بذلك، وبموت السفاح، وكان مع أبي جعفر أبو مسلم في الحج، فبايع أبو مسلم أبا جعفر وبايعه الناس.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة:
فيها قدم أبو جعفر المنصور من الحج إلى الكوفة، فصلى بأهلها الجمعة، وخطبهم، وسار إلى الأنبار فأقام بها.
وفيها بايع عم المنصور عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس لنفسه بالخلافة، وكان أبو مسلم قد قدم من الحج مع أبي جعفر المنصور، فأرسل أبو جعفر أبا مسلم ومعه الجنود، إلى قتال عمه عبد الله بن علي، وكان عبد الله بأرض نصيبين، فاقتتل هو وأبو مسلم عدة دفوع، واجتهد أبو مسلم بأنواع الخدع في قتاله، وداموا كذلك مدّة، وفي آخر الأمر انهزم عبد الله بن علي وأصحابه في جمادى الآخرة، من هذه السنة، إلى جهة العراق، واستولى أبو مسلم على عسكره، وكتب بذلك إلى المنصور.
قتل أبي مسلم الخراساني:
وفيها قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني، بسبب وحشة جرت بينهما، فإن المنصور كتب إلى أبي مسلم بعد أن هزم عبد الله عمه، بالولاية على مصر والشام، وصرفه عن خراسان، فلم يجب أبو مسلم إلى ذلك، وتوجه أبو مسلم يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم يطلبه إليه، فاعتذر عن الحضور إليه، وطالت بينهما المراسلات في ذلك، وآخر الأمر أن أبا مسلم قدم على أبي جعفر المنصور بالمدائن، في ثلاثة آلاف رجل، وخلف باقي عسكره بحلوان، ولما قدم أبو مسلم، دخل على المنصور، وقبل يده، وانصرف، فلما كان من الغد، ترك المنصور بعض حرسه خلف الرواق، وأمرهم أنه إذا صفق بيديه، يخرجون ويقتلون أبا مسلم، ودعا أبا مسلم، فلما حضر أخذ المنصور يعدد ذنوبه، وأبو مسلم يعتذر عنها، ثم صفق المنصور، فخْرجَ الحرس وقتلوا أبا مسلم، وكان قتله في شعبان من هذه السنة، أعني سنة سبع وثلاثين ومائة، وكان أبو مسلم قد قتل في مدة دولته ستمائة ألف صبراً.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة:
في هذه السنة، خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلد الإسلام، فأخذ ملطية عنوة، وهدم سورها، وعفا عن من فيها من المقاتلة والذرية، وقد مر في سنة ثلاث وثلاثين ومائة نحو ذلك، وفيها وسع المنصور في المسجد الحرام.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة:
ابتداء الدولة الأموية بالأندلس:
في هذه السنة، دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم، إلى الأندلس، وسبب ذلك أنّ بني أمية، لما قتلوا، استخفى من سلم منهم، فهرب عبد الرحمن المذكور، واستولى على الأندلس في هذه السنة. وفيها ظفر المنصور بعمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، وأعدمه وكان عبد الله مستخفياً عند أخيه سليمان بن علي من حين هرب من أبي مسلم على ما ذكرناه.
ثم دخلت سنة أربعين ومائة:
في هذه السنة، أرسل المنصور عبد الوهاب ابن أخيه، إبراهيم الإمام، والحسن بن قحطبة، في سبعين ألف مقاتل، ليعمروا ملطية فعمروها في ستة أشهر، وسار إليهم ملك الروم في مائة ألف مقاتل، حتى نزل على نهر جيحان، فبلغه كثرة المسلمين، فرجع عنهم.
وفيها حج المنصور وتوجه إلى البيت المقدس، ثم إلى الرقة، وعاد إلى هاشمية الكوفة، وفيها أمر المنصور بعمارة مدينة المصيصة، وبنى بها مسجداً جامعاً، وأسكنها ألف جندي، وسماها المعمورة.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة:
في هذه السنة، كان خروج الراوندية على المنصور، وهم قوم من أهل خراسان، على مذهب أبي مسلم الخراساني يقولون بالتناسخ، فيزعمون أن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم، هو الخليفة أبو جعفر المنصور، فلما ظهروا وأتوا إلى قصر المنصور، قالوا: هذا قصر ربنا، فحبس المنصور رؤساءهم، وهم مائتان، فغضب أصحابهم، وأخذوا نعشاً وحملوه ومشوا به على أنهم ماشون في جنازة، حتى بلغوا باب السجن، فرموا بالنعش، وكسروا باب السجن، وأخرجوا رؤساءهم، ثم قصدوا المنصور وهم نحو ستمائة رجل، فتنادى الناس، وأغلقت أبواب المدينة وخرج المنصور ماشياً، واجتمع عليه الناس، وكان معن بن زائدة مستخفياً من المنصور، فحضر وقاتل الراوندية بين يدي المنصور، فعفا عن معن لذلك وقتل في ذلك اليوم الراوندية عن آخرهم.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة:
فيها مات عم المنصور سليمان بن علي.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة، ودخلت سنة أربع وأربعين ومائة:
في هذه السنة، حبس المنصور من بني الحسن بن علي بن أبي طالب أحد عشر رجلا وقيدهم، وفيها مات عبد الله بن شبرمة وعمرو بن عبيد المعتزلي الزاهد، وعقيل بن خالد صاحب الزهري.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة:
فيها ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، واستولى على المدينة، وتبعه أهلها، فأرسل المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى إليه، فوصل إلى المدينة، وخندق محمد ابن عبد الله على نفسه، موضع خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب، وجرى بينهما قتال، آخره أن محمد بن عبد الله المذكور، فتل هو وجماعة من أهل بيته وأصحابه، وانهزم من سلم من أصحابه، وكان محمد المذكور، سميناً أسمر شجاعاً، كثير الصوم والصلاة، وكان يلقب المهدي، والنفس الزكية، ولما قتل محمد، أقام عيسى بن موسى بالمدينة أياماً، ثم سار عنها في أواخر رمضان يريد مكة معتمراً.
بناء بغداد:
وفي هذه السنة، ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداد، وسبب ذلك: أن المنصور كره سكنى الهاشمية التي ابتناها أخوه بنواحي الكوفة، لما ثارت عليه الراوندية فيها، وكرهها أيضاً لجوار أهل الكوفة، فإنه كان لا يأمنهم على نفسه، فخرج يرتاد له موضعاً يسكنه، فاختار موضع بغداد، وابتدأ في عملها سنة خمس وأربعين ومائة.
ظهور إبراهيم العلوي:
في هذه السنة أيضاً، في رمضان، ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أخو محمد النفس الزكية، وكان مستخفياً هارباً من بلد إلى بلد، والمنصور مجتهد على الظفر به، فقدم البصرة ودعا الناس إلى بيعة أخيه محمد بن عبد الله، وذلك قبل أن يبلغه قتله بالمدينة، فبايعه جماعة، منهم: مرة العبشمي وعبد الواحد بن زياد، وعمرو بن سلمة الهجيمي، وعبد الله بن يحيى الرقاشي، وأجابه جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف، وكان أمير البصرة سفيان بن معاوية، فلما رأى اجتماع الناس على إبراهيم المذكور، تحصن في دار الإمارة بجماعة، فقصده إبراهيم وحصره، فطلب سفيان منه الأمان فأمنّه إبراهيم، ودخل إبراهيم القصر، فجاء يجلس على حصير فرشت له هناك، فقلبها الريح، فتطير الناس بذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطير وجلس عليها مقلوبة، ووجد إبراهيم في بيت المال ألفي ألف درهم، فاستعان بها، وفرض لأصحابه خمسين خمسين.
ومضى إبراهيم بنفسه إلى دار زينب بنت سليمان بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين، فنادى هناك لأهل البصرة بالأمان، وأن لا يتعرض إليهم أحد.
ولمّا استقرت البصرة لإبراهيم، أرسل جماعة فاستولوا على الأهواز، ثم أرسل هارون بن سعد العجلي في سبعة عشر ألفاً إلى واسط فملكها العجلي، ولم يزل إبراهيم بالبصرة يفرق العمال والجيوش، حتى أتاه خبر مقتل أخيه محمد بن عبد اَلله، قبل عيد الفطر بثلاثة أيام.
ثم إن إبراهيم أجمع على المسير إلى الكوفة، وسار من البصرة وقد أحصى ديوانه مائة ألف، حتى نزل باحمرا وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخاً، وكان المنصور قد استدعى عيسى بن موسى من الحجاز، فحضر، وجعله في جيش قبالة إبراهيم بن عبد الله، وجرى بينهما قتال شديد، انهزم فيه غالب عسكر عيسى بن موسى ثم تراجعوا. ثم وقعت الهزيمة على أصحاب إبراهيم، وثبت هو في نفر قليل من أصحابه يبلغون ستمائة، فجاء سهم في حلق إبراهيم، فتنحى عن موقفه فقال أردنا أمراً وأراد الله غيره، واجتمع عليه أصحابه وأنزلوه، فحمل عليهم عسكر عيسى ابن موسى وفرقوهم عنه، واحتزوا رأس إبراهيم، وأتوا به إلى عيسى فسجد شكراً لله تعالى، وبعث به إلى المنصور.
وكان قتل إبراهيم، لخمس بقين من ذي القعدة، سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة.
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة:
فيها تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد ليكمل عمارتها، واستشار أصحابه، وفيهم خالد بن برمك؛ في نقض إيوان كسرى والمدائن، ونقل ذلك إلى بغداد، فقال خالد ابن برمك: لا أرى ذلك، لأنه من أعلام المسلمين، فقال المنصور: ملتَ يا خالد إلى أصحابك العجم، وأمر المنصور بنقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، فكان ما يغرمون على نقضه، أكثر من قيمة ذلك المنقوض، فترك نقضه، فقال له خالد: إني لا أرى أن تبطل ذلك لئلا يقال أنك عجزت عن تخريب ما بناه غيرك، فلم يلتفت المنصور إلى ذلك، وترك هدمه، ونقل المنصور أبواب مدينة واسط، فجعلها على بغداد، وجعل المنصور بغداد مدوّرة، لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وبني قصره في وسطها، والجامع في جانب القصر.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة:
فيها خلع المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، من ولاية العهد، وبايع لابنه المهدي محمد بن المنصور.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة:
فيها ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، وفيها ولىّ المنصور خالد بن برمك الموصل، وكان مولد الفضل قبل مولد الرشيد بتسعة أيام، فأرضعته الخيزران أم الرشيد.
وفيها توفي جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وجعفر الصادق، أحد الأئمة الاثني عشر، على رأي الإمامية، فإنه قد تقدم منهم علي بن أبي طالب، ثم ابنه الحسن، ثم الحسين، ثم زين العابدين، ثم الباقر، ثم جعفر الصادق المذكور، وسنذكر الباقين إن شاء الله تعالى، وسمي جعفر بالصادق لصدقه، وله كلام في صنعة الكيمياء، والزجر، والفأل، وولد سنة ثمانين، وتوفي في هذه السنة. أعني سنة ثمان وأربعين ومائة بالمدينة، ودفن بالبقيع، وأمّه بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وفيها توفى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة:
فيها مات مسلم بن قتيبة بالري، وكان مشهوراً، عظيم القدر، وفيها مات كهمش بن الحسن التميمي البصري. وفيها مات عيسى بن عمر الثقفي، وعنه أخذ الخليل النحو.
ثم دخلت سنة خمسين ومائة:
فيها بنى عبد الرحمن الأموي سور قرطبة، وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور، وفيها مات الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ابن زوطا، مولى تيم الله بن ثعلبة، وكان زوطا من أهل كابل، وقيل من أهل بابل، وقيل من أهل الأنبار، وهو الذكي مسه الرق فأعتق، وولد له ثابت على الإسلام، وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة المذكور: ما وقع علينا رق قط، وروى أن ثابتاً أبا أبي حنيفة وهو صغير، ذهب إلى علي بن أبي طالب فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. وقيل في نسب أبي حنيفة غير ذلك، فقيل: هو النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، وأن جده النعمان بن المرزبان، أهدى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم المهرجان فالوذجا، فقال له علي: مهرجونا في كل يوم، وأدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، وهم أنس بن مالك، وعبد الله بن أُبي، أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحداً منهم، ولا أخذ عنهم، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة وأخذ عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل.
وكان أبو حنيفة عالماً عاملاً زاهداً ورعاً، راوده أبو جعفر المنصور في أن يلي القضاء فامتنع، وكان حسن الوجه، ربعة، وقيل طويلاً، أحسن الناس منطقاً.
قال الشافعي: قيل لمالك، هل رأيت أبا حنيفة؟ فقال: نعم، رأيت رجلاً، لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهباً، لقام بحجته، وكان يصلي غالب الليل، حتى قيل إنه صلى الصبح بوضوء عشاء الآخرة أربعين سنة، وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه، سبعة آلاف مرة. وكان يعاب بقلة العربية، وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة، وقيل ولد سنة إحدى وستين، وكانت وفاته ببغداد، في السجن ليلي القضاء، فلم يفعل، وقيل إنه توفي في اليوم الذي ولد فيه الشافعي، وذلك في رجب من هذه السنة، وقيل في جمادى الأولى وقبره ببغداد مشهور. وزوطا، بضم الزاي المعجمة وسكون الواو وفتح الطاء المهملة.
وفيها مات محمد بن إسحاق، صاحب المغازي فقيل كانت وفاة محمد بن إسحاق المذكور، سنة إحدى وخمسين ومائة، وكان ثبتاً في الحديث عند أكثر العلماء، وقد ذكره البخاري في تاريخه، ولكن لم يرو عنه، وكذلك مسلم لم يخرج عنه إلا حديثاً واحداً في الرجم، وإنما لم يرو عنه البخاري لأجل طعن الإمام مالك بن أنس فيه، وكانت وفاة ابن إسحاق ببغداد، وفيها مات مقاتل بن سليمان البلخي المفسر.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة:
فيها ولى المنصور، هشام بن عمرو الثعلبي على السند، وكان على السند، عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة، فعزله وولاه إفريقية، وكان يلقب عمر المذكور بهزار مرد أي ألف رجل وفيها بنى المنصور الرصافة، للمهدي ابنه وهي من الجانب الشرقي من بغداد، وحول إليها قطعة من جيشه، وفيها قتل معن بن زائدة الشيباني، بسجستان في بست. وكان المنصور قد استعمله على سجستان، قتله جماعة من الخوارج، هجموا عليه في بيته بغتة وهو يحتجم فقتلوه، وقام بالأمر بعده ابن أخيه يزيد بن مزبد بن زائدة الشيباني.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة:
فيها غزا حميد بن قحطبة كابل وكان أمير خراسان.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وسنة أربع وخمسين ومائة:
فيها أعني في سنة أربع وخمسين ومائة، توفي بالكوفة أبو عمرو، واسمه كنيته، ابن العلا بن عمار من ولد الحصين التميمي المازني البصري، وكانت ولادته في سنة سبعين، وقيل ثمان وستين، وهو أحد القراء السبعة، وكان أعلم الناس بالقرآن الكريم، وفيها سار المنصور إلى الشام، وجهز جيشاً إلى المغرب، لقتال الخوارج بها، وفيها مات أشعب الطامع، وفيها مات وهيب بن الورد المكي الزاهد.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة:
فيها عمل المنصور للكوفة والبصرة سوراً وخندقاً، وجعل ما أنفق فيه، من أموال أهلهما، ولما أراد المنصور معرفة عددهم، أمر أن يقسم فيهم خمسة الدراهم خمسة الدراهم، ثم جبى منهم أربعين أربعين فقال بعض شعرائهم:
يا لقوم ما لقينا ** من أمير المؤمنينا

قسم الخمسة فينا ** وجبانا أربعينا

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة:
في هذه السنة توفي حمزة بن حبيب ابن عمارة الكوفي، المعروف بالزيات، أحد القراء السبعة، وعنه أخذ الكسائي القراءة. وكان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان، ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة، فقيل له الزيات لذلك.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة:
فيها مات الأوزاعي الفقيه، واسمه: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، وعمره سبعون سنة، وكنيته أبو عمرو، وكان يسكن بيوت، وبها توفي، وكانت ولادته ببعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، وكان يخضب بالحناء، وكان إمام أهل الشام، قيل إنه أجاب في سبعين ألف مسألة وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها خنتوس، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون هاهنا رجل صالح.
والأوزاعي منصوب إلى أوزاع وهي بطن من ذي كلاع، وقيل بطن من همذان، وجده يحمد، بضم الياء المثناة من تحتها، وسكون الحاء المهملة وكسر الميم، وبعدها دال مهملة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة:
وفاة المنصور:
وهو المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكانت وفاته في هذه السنة، لست خلون من ذي الحجة، ببئر ميمونة وكان قد خرج من بغداد لحج، فسار معه ابنه المهدي، فقال له المنصور: إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وهذا هو الذي حداني على الحج، فاتق الله فيما عهد إليك من أمور المسلمين بعدي، ووصاه وصية طويلة، ثم ودعه وبكيا، ثم سار إلى الحج، ومات ببئر ميمونة محرماً، في التاريخ المذكور، وكان مرضه القيام، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة وثلاثة أشهر وكسراً.
وكان المنصور أسمر نحيفاً خفيف العارضين، ولد بالحميمة من أرض الشراة، ودفن بمقابر بابه المعلى وبقي أثر الإحرام، فدفن ورأسه مكشوف، ومما يحكى عنه فيما جرى له في حجه، قيل: بينما الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلاً، إذ سمع قائلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد، ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال له: يا أمير المؤمنين إن أمنتني أنبأتك بالأمور على جليتها وأصولها، فأمنه. فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال، بين الحق وأهله، هو أنت يا أمير المؤمنين فقال المنصور: ويحك وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ فقال الرجل: لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحجاباً معهم الأسلحة، وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع والعاري، ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله من هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذي استخلصتهم لنفسك، وأثرتهم على رعيتك، تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان الله تعالى، فما لنا لا نخونه، وقد سخّر لنا نفسه، فاتفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه ونفوه، حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عملك، بالهدايا، ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذو القدرة والثروة من رعيتك، لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلماً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، فإن جاء متظلم، حيل بينه وبين الدخول إليك، فإن أراد رفع قصة إليك، وجدك قد منعت من ذلك، وجعلت رجلاً ينظر في المظالم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه، وهو يدافعه خوفاً من بطانتك، فإذا صرخ بين يديك، ضرب ضرباً شديداً، ليكون نكالاً لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا، فإن قلت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وماله في الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحوبه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى يعظم رغبة الناس إليه، ولست الذي يعطي، وإنما الله عز وجلّ يعطي من يشاء بغير حساب، وإن قلت إنما أجمع المال لتسديد الملك وتقويته، فقد أراك الله في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله تعالى لهم ما أراد، وإن قلت إنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله ما فوق الذي أنت فيه منزلةً، إلا منزلةً ما تنال إلا بخلاف ما أنت عليه.
أولاده وهم المهدي محمد، وجعفر الأكبر، مات في حياة أبيه المنصور، ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب وجعفر الأصغر وصالح المسكين، وكان المنصور أحسن الناس خلقاً في الخلوة حتى يخرج إلى الناس.